المتعة هي الخير الأول , هي المحرّك الذي يقودنا لاختياراتٍ معيّنة , و حائط الصّد الّذي يحول دون اختيارنا للخيارات الأخرى
إنّها غياب الألم عن الجسد و المنغّصات عن الروح أبيقور
ولد مؤسّس إحدى المدارس الفلسفيّة الرئيسيّة التي سادت في العصور الوسطى المتأخرة
في القرن الثّالث قبل الميلاد , في جزيرة ساموس اليونانيّة ,
كان يُدعى أبيقور , ولقد أمضى حياته في دراسة الأسباب التي تمنح الناس السعادة , وطريقة تحقيق ذلك
تمثّل السعادة وٍفقًا لأبيقور , الهدف الرئيسي للحياة
ويمكننا تحقيقها بتحصيل المتعة وتجنّب الألم
وأيضًا بترويض رغباتنا و الاستمتاع بالأمور البسيطة
"فلسفة المتعة"
بخلاف المقتطفات التي وصلتنا من أعمال أبيقور , فإن أغلب أعماله فُقِدَت
لكن ولحُسن الحظّ , يمكننا إيجاد مقتبسات من أقواله وأفكاره في أعمال المؤلّفين الآخرين
من أمثال ستويبيوس , فيلديموس , شيشيرون
السبب الذي دفع أبيقورللتركيز على السعي وراء السعادة بدلًا من الفضيلة ,
هو أنّه لاحظ أن البشر بطبيعتهم كائنات باحثة عن المتعة
بالنّظر للأطفال الصغار , نجد حرصهم الدائم على تحصيل المتع لأنفسهم
وعندما يكبرون , فإن حسّ البحث عن المتع هذا يُهَذّب نوعًا ما
مثلًا نتعلّم أننا علينا معاناة الألم لكي نتمكّن من تحصيل المتعة
وحتّى بقيامنا ببعض الأعمال التي تتسم بالإيثار , نجد أنّنا نفعلها لتجلب لنا المتعة
أن نرضى عن أنفسنا أو نساهم في تحسين المجتمع مما سيعود علينا جميعًا بالنّفع
يرى أبيقور أنه غالبًا ما يُساء فهم السعي وراء المتعة
في حين ما يظن البعض , أن أبيقور كان يقصد الانغماس في المتع الحسيّة
كتناول أفخم الأطعمة, والمشاركة في العربدة و السّكْر و الانتشاء طوال اليوم
هو لم يقصد أيّ من ذلك
فقد أدرك أن الانغماس في تلك المتع قد يجلب المتعة قصيرة المدى
لكن وعلى المدى الطويل , لن يتسبّب سوى في الألم
وبهذا , يطغى على المتعة التي جلبتها تلك النشاطات في المقام الأوّل
على سبيل المثال , يمكن لليلةٍ من الشُّرب أن تكون ممتعة جدًا
لكن السّكْر الّذي يستتبعها , عادةً ما يولّد النّدم
وغالبًا ما تدفع تلك التجربة الناس للتعهّد بعدم الشّرب أبدًا مجددًا
الإفراط في الانغماس في المتع بتلك الطريقة ,يفقد غايته , ولم يقترحه أبيقور أبدًا
ما الّذي اقترحه أبيقور إذًا؟
لقد ميّز أبيقور بين الأنواع المختلفة للمتع و الرغبات
وعليه , لقد صنع نظامًا ليعلّمنا ما هي المتع التي علينا السعي لتحقيقها و ما التي علينا تجنّبها
أهم أجزاء ذلك النظام , التسلسل الهرمي للرغبات
وهي , رغبات طبيعية ضرورية, رغبات طبيعية غير ضرورية , رغبات تافهة
لو أردت العيش بسعادة , عليك البدء في العيش بتناغمٍ مع الطبيعة
و المقصود بالطبيعة هنا , طبيعتنا كبشر , و الطبيعة المحيطة بنا
وبالتّالي , لم يشجّع أبيقور السعي لتحصيل المتع المخالفة للطبيعة واستبدالها بالمتع الطبيعية
بالتمعّن في تلك الفروق , نجد أن الرغبات الطبيعية , يسهل إرضاؤها
وهكذا , تحصيل السعادة في الحياة أمرُ غاية في السهولة
من أمثال تلك الرغبات , الطعام و المأوى
وعمومًا , يسهل على الناس تحقيق مثل تلك الرغبات فهي احتياجات أساسية
من مميزات تلك الرغبات , أن لها حدُّ طبيعي
على سبيل المثال , بتناولنا كميًة محددة من الطعام نشعر بالرّضا
بتلك الطريقة , ميّز أبيقور بين نوعين من المتع
المتع الحركية , و المتع الثابتة
المتع الحركية , هو الفعل الذي نقوم به لتحصيل المتعة كتناول الطّعام مثلًا
المتعة الثابتة , هو ذاك الشعور الّذي يغمرنا بعد قيامنا بذلك الفعل
تناولنا لوجبةٍ لذيذة على سبيل المثال , قد يكون ممتعًا للغاية , لكن وِفقًا لأبيقور
عدم الشعور بالاحتياج أو الرغبة , بعد تحقيق الرّضا , شعورٌ أفضل
لذلك من وجهة نظره , المتع الثابتة هي الأفضل
كما شدّد أبيقور على أهميّة التواصل الاجتماعي
إيمانًا منه أن الصداقة أحد أهم الأمور الجالبة للسعادة
على عكس العلاقات العاطفية و الجنسية و التي غالبًا ما تشوبها بعض التعاسة
بالأخذ في الاعتبار الشعور بالغيرة , وحب التملّك و الملل الذي يشعر به العديد
ولقد مارس ما دعى إليه , عاش أعزبًا برفقة أتباعه في مكانٍ أسماه , جنّة أبيقور
مستمتعًا بتناول أبسط الأطعمة كالخبز ,و النبيذ الغير مُسكِر و وعاءٍ من الجبن على فتراتٍ متباعدة
أود أن أضيف , أن الصداقة أصبحت عملةُ نادرة في مجتمعنا المعاصر
الرغبات الطبيعيّة الغير ضرورية , نجد أنها صعبة الإرضاء نوعًا ما
مثل الطعام الفاخر, اقتناء السيّارات الفارهة , الرّحلات الترفيهيّة
نحن نحتاج الطعام , لكننا لسنا في حاجة لطعامٍ فاخر
لا تلزمك سيّارة من نوع الفراري لتنقلك من مكانٍ لآخر
كما لسنا في حاجة للسفر في الخارج لنمرح أو نسترخي قليلًا
أيضًا لو اشتقنا لتناول طعامٍ فاخر , ثم سددنا رمقنا بطعامٍ بسيط من الخبز و الماء
فلن نشعُر بأي اختلاف , عندما يذهب توقنا إليه
على الأرجح فإن الرّضا الذي نشعر به عقب تحقيقنا لرغباتنا , لن يختلف
الفيلسوف الرواقي سينيكا , كتب عدة مقتطفاتٍ عن أبيقور
وغالبًا ما كان يقتبس عنه لرغبته الشخصيّة
أدرك أبيقور أن شعورنا بالفقر و الغنى نسبي يعتمد على مدى تعريفنا لهما
كما قال سينيكا على لسانه في الاقتباس التالي :
"كما قال أبيقور : لو أنك عشت متناغمًا مع الطبيعة فلن تفقر أبدًا
لو عشت وفقًا لآراء الآخرين , فلن تغنى أبدًا
لأن الطبيعة محدودة , أما آراء الناس فلا حدّ لها " نهاية الاقتباس
هذا ينقلنا للنوع الأخير من الرغبات
الرغبات التافهة
القوّة و الشهرة و الثراء المالي أمور يصعب تحصيلها ومن المستحيل إشباعها بالكامل
بعكس الرغبات الطبيعية , فإن الرغبات التافهة ليس لها حدود طبيعية
ما يعني , أنه حتى لو كنّا على قدرٍ من القوة الفائقة للعادة
فلن نكتفي أبدًا و سنتطلّع للمزيد , وسنقدم العديد من القرابين لإرضائها وقد تدفعنا للقتل
صنّف أبيقور تلك الرغبات بكونها غير طبيعية
بعبارةٍ أخرى , إنّها أمور يجعلنا المجتمع نتوهم أننا نحتاجها
خصوصًا في مجتمعنا المعاصر , الذي اعتاد بوصمنا بالفشل , لو لم نتحصّل على قدرٍ معيّن من المال
وهكذا ينمو الجيل الأصغر معتقدًا أن الشهرة و الثراء أهم شيء في الحياة
ما يعني أن المجتمع دفعنا لتضييع وقتنا وطاقتنا سعيًا وراء أمور غير طبيعيّة و لا حتى ترضينا
اقتباس
" الرغبات التافهة هي ذلك النمط المعيشي الذي لا يحقق لنا السعادة"
نهاية الاقتباس
بالسعيّ طلبًا لإرضاء توقعات المجتمع , و طلبنا في إرضاء ما لن يمكننا إرضاؤه,
فنحن بذلك نحرم أنفسنا من الاستمتاع بما في متناول أيدينا
على الأرجح لن يتفاجأ أبيقور عندما يعرف مدى الإقبال على مضادّات الاكتئاب في الوقت الحالي
نحن لا نسمح لأنفسنا بأن نكون سعداء
آمن أبيقور أن السعادة تكمن في عدم القلق و المعاناة
السعي المحوم لتحقيق الرغبات المتزايدة , لن يجلب الألم فقط لكنه يجلب كذلك الخوف من الموت و الإله
قال أبقور إن تلك المخاوف غيرمنطقيّة و قدّم تفسير منطقي لإثبات وجهة نظره
أولًا الخوف من الإله ,
والذي فسّره بافتراض شاع استخدامه بقوّة بين الملحدين حتى يومنا هذا
اقتباس
"هل يريد الإله منع الشر لكنه لا يستطيع ؟ إذًا فهو ليس كليّ القدرة
هل يستطيع منع الشر لكنه لا يريد ؟ إذًا فهو مؤذٍ
هل يريد منع الشر و قادرٌ على ذلك ؟ فمن أين تأتي الشرور إذًا
هل لا يمكنه منع الشرور و لا يريد منعها ؟ فلم ندعوه إلهً إذًا
نهاية الاقتباس
لم يؤمن أبيقور بالحياة الآخرة ولا بالجنة و الجحيم و أن كوننا مكون من الذرّات و الفراغ
وطالما لا وجود لثوابٍ أو عقابٍ أخروي , فلا معنى لأن نعيش باستقامة في حياتنا هذه
لأن أرواحنا تتمنى الاستمتاع بالحياة الأخرى
ثانيًا الخوف من الموت
وفقًا لأبيقور , الموت لا يعني الإبادة لكل الكائنات الحيّة
و إلا لن يكونوا كائنات حيّة
وعندما يموت أحد الأشخاص , كيف سيؤثّر ذلك عليه؟
بغياب الوعي و الجسد , مستحيل أن يشعر بالضرر
أو من حيث وجود الجنة أو الجحيم , كيف يمكن عقاب من لم يعد موجودًا؟
وهكذا قدّم أبيقورالحجة على أن الموت لا يضر الأحياء و لا الأموات
لذا , لا ينبغي أن نسمح للخوف من الموت بأن يفسد علينا العيش بسعادة
الحياة الحالية هي المهمة
علاوةً على ذلك , يجب أن نذكّر أنفسنا بأن الحياة قصيرة
وندرك أننا قد نفوت على أنفسنا الشعور بالمتعة
اقتباس "لقد ولدنا مرة , و لا يمكن أن نولد مجددًا,
لن نعيش للأبد , و لا يمكنك التحكم في المستقبل , وها أنت تؤجل سعادتك
نحن نضيّع حيواتنا في التأجيل , و يموت كلٌ منا دون أن يستمتع بحيازة الرّاحة" نهاية الاقتباس
الخلاصة , أسس أبيقور فلسفة عقلانيّة للمتعة ,
و التي تعارض بشدة المعتقدات السائدة
بدلًا من الاستهلاكية الصارخة للوقت الحالي, شجعنا على الرضا بالقليل
لا يعني ذلك أننا يجب أن نحرم أنفسنا من المتع الغير ضرورية من حينٍ لآخر
حتى لو أن أبيقور عاش أغلب حياته على الخبز و الماء و الزيتون
إلا أنه كان يستمتع بشريحة من الجبن على فتراتٍ متباعدة
جميعنا يعلم , أنه كلما زادت بساطة عيشنا , كلما زاد استمتاعنا بالفخامة عندما نتحصّل عليها
فلسفة أبيقور تتفق نوعًا ما مع الإلحاد
وصرّح أن الخوف من الإله لا معنى له
ولا يجب أن نقلق حيال الموت
الرواقيّ , سيظلّ يذكّرك بالموت لأن الوقت الذي سنعيشه كأشخاص فضلاء محدود
بينما سيقول الأبيقوريّ , لا ينبغي أن تضيّع حياتك سعيًا وراء المتع التافهة
أو المخاوف الغير منطقيّة , وهكذا نعيش سعداء
عيشنا في مجتمع استهلاكي قد يدفعنا لنسأل أنفسنا السؤال التالي,
لماذا نعاني سعيًا وراء المال و الشهرة و القوة
بينما يمكننا أن نعيش سعداء بطرق أبسط ؟
شكرًا للمشاهدة
"قناة الوحيد"